الوحدة والكثرة

يقول ابن العربي في مقدّمته للفتوحات المكّيّة:

من أجل أن نستطيع استيعاب هذه المفاهيم المبتكَرة للزَّمن التي تحدّثنا عنها في الفصول السابقة، فإنّنا نحتاج إلى تسليط الضوء بشكل أوضح على رؤية ابن العربي المثيرة للجدل وهي ما يُسمّى بوحدة الوجود، لأنها المفتاح الأساسي لفهم وجهات نظره المختلفة حول الزّمن والخلقِ بشكلٍ عامّ. بالرغم من أنّه لم يسبق له أن استخدم هذا التعبير المشهور مباشرة، لكنّه واضحٌ جدّاً بأنّ مفهوم وحدة الوجود هذا يسيطر على كتابات ابن العربي بقوّة؛ فهو يشرح كلّ شيء تقريباً اعتماداً على وحدة الوجود، ولكن ليس بمفهومها الشائع كما سنرى. وبشكل خاصّ فإنّ بنية العالَم وأصله وعلاقته بالخالق سبحانه لا يمكن فهمها وفق ابن العربي إلا على أساس نوعٍ من وحدانية أو بالأحرى أحديّة الوجود.

ولكن على ضوء الجدل الانفعاليّ الكثير عبر القرون حول هذا المفهوم الغامض، لا بدّ من التشديد أنّ مفهوم ابن العربي لوحدانيّة الوجود وأحديّته يختلف بشكلٍ كاملٍ عن مثيلاته من وجهات النظر الفلسفية والدينيّة الأخرى، رغم وجود تشابه في بعض الأحيان؛ فابن العربي لا يُنكر أبداً الفروق الأساسيّة بين الخالق والمخلوقات، وبالتأكيد لا يناقضُ أبداً الأسس العميقة للعقيدة الإسلامية، وكذلك يؤكّد على وجوب الالتزام بالشريعة الإسلامية وما أتت به من أحكام مختلفة في العبادات والمعاملات وتحليل الحلال وتحريم الحرام، لأنّه رغم إيمانه العميق بالوحدة المطلقة للوجود، لا يزال يقبل التعدّد والكثرة الملحوظة على شتى مستويات الوجود الظاهرية، وإنّما هو يعتمد على مفهوم وحدة الوجود من أجل فهم الكون وأصله وعلاقته بخالقه كما أسلفنا. ونحن هنا سوف نهتم فقط بهذه الجوانب الكونيّة لوحدة الوجود من أجل فهم رؤيته المعقّدة للزمن والخلق للوصول إلى نموذج الجوهر الفرد الذي سنخصّص له الفصل السادس، ولن نخوض كثيراً في بحث انعكاسات رؤيته على جانب الشريعة من عبادات ومعاملات بل نترك ذلك إلى موضوع كتاب قادم متخصّص في البحث في وحدة الوجود عند الشيخ محي الدين إن شاء الله تعالى.